وظائف الفن _ج2
صفحة 1 من اصل 1
وظائف الفن _ج2
ثانيا : الوظيفة الحضارية للفن :
أ . الفن سجل ضخم يدون إنجاز الحضارات :
فقد رأى الفلاسفة أن الفن مظهر من مظاهر تسجيل حضارات الشعوب البدائية و المتحضرة على السواء ، و الخبرة الجمالية تنم عن مدى تحضر الشعوب :
وفي هذا الصدد يرى جون ديوي أن الفن وثيق الصلة بالحضارة لأن شتى الخبرات العملية و الاجتماعية و التربوية في كل مكان وزمان اصطبغت بصبغة جمالية واضحة ، بالعودة إلى آثار المجتمعات القديمة وعاداتها و أنظمتها وصناعتها وشتى مظاهر حياتها ، نتحقق أن الفن الجميل كان مندمجا في صميم اهتمام الحياة الاجتماعية العادية .... وقد كان الفن ظاهرة مصاحبة للمعبد والطقوس الدينية و الاحتفالات الشعبية و الألعاب الأولمبية و المحاكم و الساحات الشعبية وشتى أشكال الحياة الاجتماعية المشتركة ، وتاريخ الحضارات البشرية جميعا شاهدا بأن مجتمعاً واحدا من المجتمعات لم ينفصل يوما عن الصناعة أو الخبرة الجمالية عن الحياة العملية ، ثم يقرر أنه ليس هناك معنى على الإطلاق لنزعة الفن للفن : ثم يبدأ بسوق الأدلة التي يبرهن ها على صحة رأيه فيقول :
1. أن أثينا نفسها ما كانت لتقبل دعوى الفن للفن لو قُدر لها أن تعرف مثل هذه الدعوى ، وقد شعر أفلاطون أن الفن يعكس الانفعالات و الأفكار المرتبطة الأنظمة الرئيسية للحياة الاجتماعية ، فقاده هذا الشعور إلى المناداة على فرض رقابة على الشعراء و أهل الدراما و الموسيقيين ، وما كان أحد من معاصرية يشك لحظة في أن الموسيقى جزء لا يتجزأ من نفسية المجتمع و أنظمته .
2. ولئن كان الأفراد هم الذين يستحدثون التجربة الجمالية ، وهم الذين يتمتعون بتذوقها ، لكن الحضارة التي ينتسبون إليها هي التي أسهمت في تكوين الجانب الأكبر من مضمون تجربتهم ، فالخبرة الجمالية مظهر لحياة كل حضارة وسجل لها ، فالحضارة هي البوتقة الكبرى التي تصهر فنون الجماعة وصناعتها وطقوسها وشعائرها و أساطيرها وقيمها الجماعية وشتى مظاهرها .
3. لم تكن الأساطير في نظر الإنسان البدائي مجرد محاولات عقلية قام بها الإنسان للسيطرة على الطبيعة بل كانت خبرات جمالية استثارت أحاسيسه وانفعالاته وشتى حالاته الذهنية .
4. الفنون في العصور الوسطى لم تكن مجرد خُدّام للدين كالمعرفة المدرسية ، بل إن التصورات اللاهوتية لم تنجح في التأثير على الإنسان إلا أنها أهابت بأحاسيسه وخياله الحي إهابة مباشرة مما جعل الأديان تربط أسرارها المقدسة بأسمى روائع الفن .
5. إن الكثير من الثورات الفكرية الهائلة التي يحققها اليوم علماء الفلك و الفيزياء تتجاوب مع حاجاتنا الجمالية إلى إشباع الخيال أكثر مما تتجاوب مع أي التماس صارم للحجة غير العاطفية التي يستلزمها التفسير العقلي .
إذن :
ليس في وسعنا فصل الفن عن الحياة الحضارية لكل مجتمع ما دامت الحضارة هي الأصل في نشأة معظم الفنون
أما هيجل فقد الفن مفتاح الحكمة عند الشعوب ذلك لأنه يحفظ تاريخ منجزاتها الكبرى :
يقول في المقدمة : ( .. في الأعمال الفنية أودعت الأمم أعمق حدوسها و أفكارها عن قلوبها ، و الفن الجميل كثيرا ما يكون هو المفتاح ، و المفتاح الوحيد عند بعض الأمم لفهم حكمتها وديانتها ) .. وقد تنبه ان الفن يوقظ النفوس ، يقول في المقدمة : ( يقام صرح الفن الذي مهندسه وبانيه هو روح الجمال الذي يوقظ المعرفة الذاتية و لإكمال ما يحتاج إليه تاريخ العالم لتطور عصوره ) ..
ب . الفن جسر يكفل التواصل بين البشر :
يرى مفكروا العصر الحديث من الفلاسفة أن الفن لغة عالمية قادرة على مخاطبة الإنسان أينما كان وكيفما كان تفكيره ، ولذا فهو قنطرة تكفل التواصل بين جميع البشر في هذا العالم الواسع المترامي الأطراف ، فتعمّق من فهم الإنسان لأخيه الإنسان ، ولديها القدرة على وصل الشعوب ببعضها في مختلف الأزمان ، فهي تصل الحاضر الماضي .
يقرر ديوي أن الأعمال الفنية هي الوسائط الوحيدة لتحقيق تواصل تام لا يعوقه شيء بين الإنسان و أخيه الإنسان تواصلا حقيقيا يتم في نطاق عالم مليء بالهوات و الأسوار التي تحد من كل صبغة جماعية مشتركة قد تتخذها التجربة ، و الواقع أن هذه الفنون الجنية تعمل على توسيع خبراتنا الخاصة وتعميقها فتقلل من طابعها المحلي أو صبغتها الإقليمية وتفتح أمامنا السبيل لإدراك المواقف الأساسية و الاتجاهات الجوهرية المتضمنة في تلك الأشكال الأخرى من التجربة .
كما يقرر كروتشة أن هناك تواصل بيننا وبين الفنانين عبر الأعمال الفنية التي عبروا فيها عن أنفسهم حيث أن الفنان لم يعمل ولم ينفعل إلا من أجل تلك الصورة الفنية التي أبرزها إلى الخارج الموضوعي على نحو غنائي متحررا عن طريقها من اضطرابه الانفعالي ، ومن المؤكد أن هذه الصورة التي اغتبط الفنان لنجاحه في إبداعها في الوقت نفسه صورة يغتبط الآخرون لرؤيتها ، وكان انفعالات الفنان قد أصبحت انفعالاتهم ، وكأن غبطة الإبداع قد استحالت إلى غبطة تذوق لأن ثمة وحدة أصيلة في المشاعر تجمع بين البشر جميعا بحيث أن انفعالات الآخرين لتصبح عن هذا الطريق بمثابة انفعالات شخصية لنا ، وكما أن الحياة الفردية ممكنة لأننا على اتصال دائم بماضينا ، فإن الحياة الاجتماعية أيضا ممكنة لأننا على اتصال دائم بأشباهنا من الناس ، ونحن نستطيع بالفعل أن نتذوق أعمال الفنانين لأننا نستطيع أن نستعيد في نفوسنا تلك الظروف التي اكتنفت عملية الخضوع لمؤثر جمالي معين ، ونستطيع التغلب على سائر العوائق الاجتماعية و التاريخية التي تفصل بيننا وبين الأحوال التي تم في كنفها تحقيق ذلك الأثر الفني ، معنى ذلك أن في وسع الإنسان العادي أن يتذوق أعمال كار الفنانين ما دام في وسعه أن يستعيد في ذهنه خيالات مماثلة لتلك التي طافت بأذهان أولائك الفنانين ، ولولا ذلك لما كان للفن تاريخ ولما كان هناك تراث فني
ونلاحظ في عصرنا الراهن أن تطور وسائل الاتصالات التكنولوجية الحديثة ولا سيما الشبكة العنكبوتية عملت على ربط أطراف العالم ببعضها و كأن العالم يستحيل إلى قرية صغيرة ، وقد سهل ذلك على الفنانين و المبدعين تبادل الرؤى و الاطلاع على كل ما يستجد في عالم
الفن بضغطة زر صغير فقط .
ويضرب عبد الرؤوف برجاوي مثالا على ذلك ، حيث يقول بأن الفن أداة للتفاهم بين البشر لا يعرف الحواجز ولا يعترف حدود :
فالموسيقى ، أي موسيقى تنشأ في بلد ما ، تعجب الناس في أي بقاع كانوا ، و الرسم فن يتأثر به الشرقي و الغربي على السواء ، وكذلك النحت و الرقص وفن العمارة ، لأن اللغة المحكية في تلك الفنون هي لغة العواطف ، و الأسلوب الذي تتحدث به وتترجم هو أسلو القلوب الكبيرة التي تعبر عن المعاني الإنسانية الخالدة .
******************
ثالثا : الوظيفة الترفيهية للفن :
وظيفة التسلية :
من الوظائف الحيوية التي يقوم بها الفن في الحياة هي أن ينسينا مشاق الحياة و المتاعب اليومية عن طريق اللعب ، فتأمل الجميل مسلاة أو انطلاق أو رغد أو ترف .
وقد أكد كانت على هذا التجرد و أراد سبنسر وشيلر ان يفسرا الفن كله على أنه صورة عليا من صور اللعب
وكثيرا ما أشار الفلاسفة إلى وجود اللذة و المتعة في التذوق الجمالي للفن ..
ويجسد صدق هذه الفكرة أن الكثير من متاحف العالم وصالات عرضه الفنية ، و الأمسيات الأدبية و الشعرية قد استحالت إلى مراكز سياحية ، ونقاط تجتذب السياح لقضاء العطل و أوقات الاستجمام ، بعد أيام زاخرة بالتعب ، ينفضون عندها إرهاقهم ، ويحصلون على الترف الذهني الذي يجدد نشاطهم ويعدهم لاستقبال فترة زمنية جديدة حافلة المشاغل .
رابعا : الوظيفة النفعية للفن :
هل هناك ارتباط ين الفن و المنفعة أيا كان المقصود من لفظة ( المنفعة ) اقتصادية ، استهلاكية ، سياسية ؟؟؟
ما هي طبيعة الفن ؟ هل هو غاية في حد ذاته ؟ ومنزه عن الغرض ؟ أم أنه يرتبط بالمنفعة ؟
توجد صورتان متباينتان للرأي في الفن تختلفان اختلافا بينا .
الرأي الأول : يرى أن على الفن أن يرقّي من الوعي البشري ، كما أن عليه أن يحسّن النظام الاجتماعي الذي يعيش البشر في كنفه ويستظلون بظله وتتأثر حياتهم كلها المادية و المعنوية بمثله وتعاليمه ..
الرأي الثاني : يرى أن الفن غاية في حد ذاته و أن أية محاولة لاستخدامه كوسيلة تخدم غرضا من الأغراض أو غاية من الغايات مهما كان الغرض نبيلا و شريفا ، إنما هي محاولة تؤدي إلى تدهور العمل الفني أو على أقل تقدير تنقص من قيمة الفن وقدره .
إذن : هل يرتبط الفن بالمنفعة ؟ أم أنه الفن للفن : أي الفن الخالص المنزّه عن الغرض ؟
أولا : الفن للمنفعة :
كلمة المنفعة كلمة مطاطية من الممكن حشر كثير من المعاني تحت مصطلحها ، لذا يجب أن ننتبه إلى المعنى الذي يقصده كل فيلسوف من كلمة المنفعة .
من أبرز المدافعين عن اتجاه ( الفن للمنفعة ) تشيرنيشفسكي ، جون ديوي ، وجورج سانتيانا ..
أما تشيرنيشفسكي فيرى أن الفن ينبغي أن يخدم أهدافا حيوية ، ولا يظل كما معطلا لتزجية الفراغ أو الترويح عن النفس ، لأن دور الفن أن يكون مسخرا لخدمة الإنسان ، و أن يقدم له ما ينفعه ، و أن لا يكون مجرد متعة لتزجية الفراغ أو الترفيه عن النفس ، بل ويقوم أيضا بدور تعليمي ، كما أنه يعمل على محاربة الباطل و الوقوف إلى جانب الحق .
و المنفعة التي يقصدها تشيرنيشفسكي هنا منفعة تعليمية ، اجتماعية تتمثل في محاربة الباطل و الوقوف على جانب الحق .
أما جون ديوي ( 1859 – 1952 م ) فيرى أن الفنون الجميلة فنون نافعة ، ولا يريد أن يفصل الجميل عن النافع لأنه يلاحظ أن الحياة الحضارية هي التي تتكفل بإظهار ما بين الفنون الجميلة و الفنون النفعية من علاقة وثيقة ، ولو فهمنا المنفعة بشكل واسع لكان في وسعنا أن نقول إن الفنون الجميلة فنون نافعة ، ثم يدلل على أن لممارسة الفنون الجميلة بطريقة معتدلة قيمة عملية لا تُجحد لما لها من أثر تربوي عظيم الشأن على النفس ، وأن الخبرة الجمالية تؤهلنا للقيام بألوان جديدة من الإدراك ، معنى ذلك أن للفنون الجميلة قيمة عملية لا تقل أهمية عن قيمة بعض الصناعات التكنولوجية ، ويقرر ديوي أن الفنون الصناعية قد تنطوي على صبغة جمالية حين تجيء صورها متلائمة مع استعمالاتها الخاصة ، وبهذا المعنى يمكن اعتبار السجاجيد و الأواني الخزفية و الأدوات المنزلية موضوعات فنية بشرط أن يكون لموادها الأولية من التنظيم و الشكل ما يؤدي بطريقة مباشرة إلى إثراء تجربة الشخص الذي يتأملها بعناية ..
وينادي ديوي فكرة تداخل الفنون الجميلة و الفنون النافعة دون أن يفصل النشاط الفني عن النشاط الصناعي ، ويأتي حرص ديوي على ربط الفن بالتجربة على انه هو الذي أملى عليه توثيق الصلة بين الفن الجميل و الفن النافع باعتبارهما مظهرين لنشاط بشري واحد في صميمه .
فالمنفعة التي يقصدها ديوي صناعية استهلاكية ، ثم يفصل في ذكر الأسباب التي جعلت البعض يعزل الفن الجميل عن المنفعة والتي يعيدها إلى عوامل تاريخية في مقدمتها بعض العوامل الاقتصادية و الصناعية و الحربية .
وبدأ ببيان العوامل الحربية فيقول :
وحسبنا أن نلقي نظرة على متاحفنا ومعارضنا الحديثة التي اعتدنا أن نخزن فيها شتى الآثار الفنية لكي نقف على العلل التي عملت على عزل الفن بدلا من ربطه بالحياة الاجتماعية ، و الواقع أن الغالبية العظمى من متاحف أوروبا في جانب منها آثار تذكارية لقيام القومية و التوسع الاستعماري ، و آية ذلك أن كل عاصمة من عواصم أوروبا تحرص أن يكون لها متحفها القومي الخاص في النحت و التصوير وخلافه ، و أصبحت تهتم بإبراز نواحي عظمتها الفنية الماضية مع العناية بعرض الأسلاب التي جمعها حكامها أثناء غزوهم للشعوب الأخرى كمجموعات الغنائم بمتحف اللوفر من أسلاب نابليون ، وتشهد هذه المجموعات الفنية بوجود علاقة وثيقة بين ظاهرة عزل الفن في العصر الحديث ، وبين ظاهرتي القومية و الروح العسكرية .
ثم وضح العوامل الاقتصادية بقوله :
ثم جاء نمو الرأسمالية كعامل قومي في نشوء المتحف باعتباره المقر الطبيعي للأعمال الفنية ، وفي رواج الفكرة القائلة أن هذه الأعمال قائمة بذاتها في استقلال تام عن الحياة العامة ، وقد أوجد هذا النظام طبقة الأثرياء الجدد ، فصار الرأسمالي النموذجي حريص على اقتناء الأعمال الفنية النفيسة من كل نادر باهظ الثمن ، و أصبح الهاوي الثري يجمع اللوحات و التماثيل و الحلي الجميلة حتى يدعم مركزه في مضمار الثقافة الرفيعة ، ولم يقتصر الأمر على الأفراد بل أصبحت الجماعات و الشعوب تحرص على إظهار حسن ذوقها الثقافي ببناء دار الأوبرا ، وتشييد المتاحف ، و إقامة المعارض ، لرعاية الفن وتشجيع ذويه للتباهي بالمقتنيات الفنية و التفاخر بمركزها الثقافي الممتاز ، نظرا لما طرأ على الأحوال الصناعية من تغيرات فقد دفع الفنان إلى هامش المجتمع بعيدا عن التيارات الأساسية للنشاط الإيجابي الفعال .
و أخيرا وضح تأثير العوامل الصناعية في عزل الفن عن الحياة بقوله :
ونظر الفنان إلى ميكانيكية الصناعة فوجد أنه لا يستطيع العمل بطريقة آلية لمجاراة الإنتاج الصناعي الكبير ، فظن أن نشاطه فردي صرف ، وليس عليه سوى أداء عمله كما لو كان مجرد وسيلة منفصلة للتعبير عن الذات ، وبالغ بعض الفنانين في تأكيد هذه النزعة الانفصالية في الخروج على المألوف ، فأصبحت للمنتجات الفنية طابع الأشياء المستقلة أو الموضوعات الخفية المستورة ، وقد أرادوا بذلك أن لا يضعوا إنتاجهم في خدمة أي قوة من القوى المادية و الاقتصادية ، وقد امتدت هذه العدوى إلى النقد الفني فأصبح الناس يهللون لغرائب التقدير وروائع الجمال الفني المتعالي أو الفائق للعقل خصوصا ذلك الفن الذي ينهمك فيه أصحابه دون اهتمام منهم بالقدرة على الإدراك الجمالي في مضمار الواقع الحسي الملموس .
و يقرر سانتيانا أن الكثير توهموا نزاهة المتعة الجمالية من الغرض ، و كأن المرء حين يجد نفسه إزاء موضوع جمالي لا يفكر مطلقا في السعي نحو الظفر به أو امتلاكه ، حقا إن تقدير اللوحة لا يختلط في العادة بالرغبة في شرائها لكن من الطبيعي أن تكون هناك علاقة وثيقة بين الحافزين ، فليس ما يمنع أن نشتهي الملذات الجمالية كما نشتهي غيرها من الملذات ، بل إن صعوبة الحصول على بعض الملذات الجمالية يسبب زيادة قيمتها في نظرنا كالأحجار الكريمة ( ما دامت اللذة الجمالية شخصية فلا موضع للقول أنها أقل أنانية أو نفعية )
و المنفعة التي ركز عليها سانتيانا هي منفعة اقتصادية تتمثل في الشراء و الاقتناء واشتهاء الملذات الجمالية .
ثم يشير إلى نوع آخر من المنفعة وهو التوافق مع الطبيعة حيث يؤكد على أن الجمال هو الضامن لإمكانية توافق النفس مع الطبيعة ، وهذا التكيف هو الذي أدى بأشكال من الفن كفن العمارة مثلا إلى التوافق مع الضرورات العملية ( الوقاية ، الاحتماء ، الإضاءة ، التملك ، تنوع المواد الأولية ) ولكن لم تلبث عين الإنسان أن اعتادت أنماطا معينة من من الصور نتيجة لتكرار إدراكها لأمثال هذه الأشكال النموذجية ، فأصبح خط المنفعة هو بعينه خط الجمال ، ومن هنا يسلم سانتيانا مع أفلاطون بوجود جمال مطلق يتحكم في نظام العالم بل ويقرر تنظيم العالم نشأ عن فعل بعض القوى الآلية أو الميكانيكية التي حددت النماذج أو الأنماط ، فلم يكن على إدراكنا الجمالي سوى أن يراعيها في تذوقه للجمال
ولذلك يرى أن مهمة الفنان الامتداد بالمنفعة بحيث تستحيل إلى جمال ، فيكون عامل اللذة أو المتعة عاملا أساسيا في صبغ بعض الأشكال التجريدية بقيم جمالية نتيجة لما يترتب على إدراكنا لمثل تلك الأشكال من إحساس ملائم يرتبط بفعل بعض التوترات العضلية و الحسية ، وهكذا يخلص إلى أن الجمال هو الضامن لإمكان توافق النفس مع الطبيعة
ثانيا : الفن للفن :
وممن انتصر لنظرية الفن للفن أو الإنتاج للإنتاج هو الفيسلوف الألماني إمانويل كانت ( 1724 – 1874 م ) ، و الإيطالي بندتو كروتشة ، و الفرنسي بول سارتر ..
يقول كانت : ( إن الحكم الجمالي يفترض بلا جدال غياب كل اعتبار نفعي لدى الفرد الذي يصدره ) أي أن حكم الذوق حكم مجرد مطلق ومتنزه عن كل غرض ، ويقول أيضا : ( إن الإنسان الاجتماعي لا يعتبر كل شيء نافع جميلا ) ثم يستدرك قائلا : ( لكن لا جدال في أن الأشياء النافعة أو بعبارة أخرى الأشياء التي يمكن أن تفيده في صراع البقاء ضد الطبيعة أو ضد أناس آخرين يعيشون معه ، هي وحدها التي يمكن أن تبدو له جميلة ) ثم يستدرك تارة أخرى بقوله : ( هذا لا يعني أن وجهتي النظر النفعية و الجمالية تتطابقان لدى الإنسان الاجتماعي ، فالمنفعة يتعرفها العقل ، أما الجمال فيتعرفه الحدس ، ومضمار الأول هو الحدس أما مضمار الثاني فهو الغريزة ، و الحال أن مضمار الحدس أوسع و أرحب بما لا يقاس من مضمار العقل ، والإنسان الاجتماعي إذ يتمتع بشيء يبدو له جميلا ، ولا ينتبه تقريبا إلى ما ينطوي عليه من نفع ، و إن كانت فكرة هذا النفع مرتبطة لديه بفكرة ذلك الشيء وهو في أغلب الأحوال لا يمكن أن يكتشف هذا النفع إلا عن طريق تحليل علمي ، والسمة الأساسية للمتعة الجمالية تتمثل في طابعها المباشر ، بيد أن النفع موجود وهو أساس كل متعة جمالية ، ولو لم يكن لذلك النفع من وجود لما أمكن أن يبدو الشيء جميلا )
نلاحظ أن كانت يعلي من الجمالية حينما يقرن بينها و بين النفعية على أساس قيام الجمالية على الحدس لآن مضمار الحدس أرحب و أكبر و أن الإنسان عندما يستمتع بشيء فإنه يراه جميلا دون أن ينتبه إلى المنفعة ، بل إن هذا النفع لا ينكشف إلا بعد التحليل العلمي ، بينما السمة الأساسية للمتعة الجمالية مباشرة ، وبهذا تكون وجهة نظر الجمالية هي الغالبة على وجهة نظر النفعية .
ويرى ( لوفافر ) أن استبعاد عنصر المنفعة التطبيقية العملية و الاجتماعية و السياسية من الفن يفقر الفن ، وليست المنفعة فيه عنصره الوحيد ، ولكنها من عناصره المكملة ، على أن تؤخذ بمعناها الواسع .
المنفعة عند كانت هنا مبهمة غير جلية المعالم ، أما لوفافر فالمنفعة لديه سياسية و اجتماعية في المقام الأول .
ويرى كانت أن الحكم الجمالي حكم متعلق بالذوق ، و الذوق هو ملكة الحكم على شيء ما عن طريق الشعور اللذة أو الألم على نحو خال من المنفعة ..
ويقول أيضا : ( الجمال هو شكل من الغائية في شيء ما بقدر ما يجري تصوره فيه بمعزل عن عرض غاية )
ويضيف : ( الذوق هو ملكة تقدير شيء ما أو حالة ما من التمثل أو العرض عن طريق الابتهاج أو الامتعاض بمعزل عن أي نفع . وموضوع مثل هذا الابتهاج يسمى جميلا )
أما كروتشة فينكر أن يكون الفن فعلا نفعيا يقصد من وراءه الإنسان إلى تحصيل لذة أو اجتناب ألم وهو يأبى أن يهبط بالفن إلى مستوى الأفعال النفعية التي تدخل في نطاق الاهتمامات العملية ، وهنا يثور كروتشة على النظريات التقليدية في التوحيد بين الفن و اللذة أو المنفعة ، فيقول قد يكون الشكل الذي تصوره اللوحة عزيزا علينا ، و بالتالي فإنه قد يستثير في قلوبنا بعض الذكريات الطيبة ، ولكن اللوحة مع ذلك قد تكون في حد ذاتها قبيحة من الناحية الفنية ، وليس ما يمنع أن تكون اللوحة جميلة من الناحية الفنية مع كونها في الوقت ذاته مصورة لمنظر بغيض ثقيل على النفس ، فكروتشة لا يوافق على القول بأن اللذة هي جوهر الاهتمام الجمالي ولئن كان النشاط الجمالي مصحوبا بلذة ، إلا أن اللذة ظاهرة مشتركة يتقاسمها مع النشاط الفني غيره من ضروب النشاط الروحي ولذا رفض كروتشة أن يرجع إلى مفهوم المتعة أو اللذة في تعريف الفن
هنا يحصر كروتشة المنفعة في اللذة و الاستمتاع الفني .
أما سارتر فيقرر في كتابه (ما الأدب ؟ ) أن الشاعر لا يستخدم الكلمات بأية حال ولكنه يخدمها ، فالشعراء يترفعون باللغة عن أن تكون نفعية وهي للمتحدث خادمة مطيعة وللشاعر عصية أبية المراس لم تستأنس بعد ، هي على حالتها المتوحشة ، الكلمات للمتحدث اصطلاحات ذات جدوى و أدوات تبلى قليلا باستخدامها ويضحي بها جانبا عندما لا تعود صالحة للاستعمال وهي للشاعر أشياء طبيعية تبدو شيطانيا كالعشب و الأشجار
من الواضح أن قصد سارتر النفع المادي الذي يجنيه المرء بامتهان حرفة الكتابة .
*********************************
خامسا : الوظيفة الاجتماعية للفن :
أ . الدور التعليمي :
ربط يوهان وولف هانج جوته ( 1749 – 1832 م ) الفن بالمجتمع عندما تكلم عن ضرورة أن يكون الفنان معلما للشعب لأن الفن الأصيل لا يؤدي دوره إلا عندما يعلم الإنسان كيف يتصرف تصرفا سليما ، ويوقظ فيه الرغبة في العمل الفعال باسم توطيد الحق و الخير و الجمال في الحياة
ويؤكد هيجل على الدور التعليمي للفن ، حيث يقول في ( المقدمة ) :
( الفن كان في الحقيقة المثقف الأول للشعوب ) ويقول : ( الفن ليس موجها إلى دائرة صغيرة ومختارة من الصفوة الممتازة ، بل موجه إلى الأمة في نطاقها العريض ) وربط بين الفن و الشعب قائلا : ( لأن روح الفنون الجميلة هي الروح المحددة في شعب يشعر بأن الشمولية توجد في نفسه ) ..
ويحرص هيجل على أن لا يكون العمل الفني معزولا عن الحقائق الجوهرية في الحياة ونشاطات المجتمع الإنساني
و أرى بان الكثير من فنون و علوم الفراعنة عًرفت من خلال النقوش و الكتابات الرسوم التي تركوها على جدران المعابد ، و التماثيل التي نحتوها ، والنصب التي حفروها في الصخور ، ففسرت إيمانهم بعالم البعث و الغيب الأخروي واستعدادهم ليوم الحساب ، وكثير من طقوسهم الحياتية و الدينية .
ب . الدور الوعظي :
ويرى هيجل أن الفن يعظ الإنسان وهذا الغرض من الفن يتحقق بأن ينفذ المضمون الروحي الجوهري في الوعي عن طريق الأثر الفني ، وكلما سما الفن احتوى على مضمون أكبر وكان هذا معيار قيمته سواء كان المعبر عنه مطابقا أو غير مطابق . وفي الحق أن الفن هو المعلم الأول للشعوب
جـ . الدور الوجداني :
الفنان العظيم عند برجسون هو ذلك الذي يصدر في عمله عن انفعال جديد أصيل بحيث يولد في أنفسنا أحاسيس جديدة أو عواطف لم يكن لنا بها عهد ، أو انفعالات لم تكن لنا في الحسبان . و الانفعال الذي يتحدث عنه برجسون هنا ليس من قبيل التأثر الوجداني الصرف الذي لا يكاد يتجاوز السطح ، بل هو ضرب من الانقلاب النفسي الذي ينفذ إلى أعماق النفس فيزلزل أركانها ، ومثل هذا الانفعال لا يقف عند حدود التأثير النفسي ، بل سرعان ما يرقى إلى التفكير ، لكي يثير في النفس بعض الأفكار الجديدة فتنبثق من أعماقه تيارات فكرية لم يكن في وسع أحد أن يهتدي إليها من قبل أو يتنبأ بها مقدما ، ولهذا يقرر برجسون أن الإبداع إنما هو أولا و قبل كل شيء انفعال ولكن هذا الانفعال لا ينفي التفكير ولا يعني عدم جدوى التأمل و إنما يعني اندلاع نار الوجدان في وقود الفكر بحيث ينبثق من شرارة الحدس إبداع أصيل يعبر به الفنان عن شيء كان يظنه غير قابل للتعبير وهنا تنصهر الأفكار ويتحقق ضرب من الاندماج بين الفنان وموضوعه فينشأ من ذلك ما يسميه برجسون باسم العيان أو الحدس
يصور لنا برجسون الفنان على أنه ظاهرة شاذة لا صلة لها بالعالم الذي نعيش فيه ، وكأن الفنان إنسان معزول تقتصر كل مهمته على تحقيق ضرب من التطابق بينه وبين موضوعه دون أن تكون له أدنى صلة بواقعه الاجتماعي ولا غرو فإن برجسون لم ير في الفن سوى إدراك فردي أو حدس خاص ، فلم يكن في وسعه أن يربط الخبرة الفنية بما عداها من خبرات بشرية أخرى ، واقتصر في تفسيرها على بعض المبادئ الميتافيزيقية الخالصة كمبدأ الحدس وفكرة الانفصال أو التجرد عن الحياة وظاهرة الانفعال العميق .. لذا فقد جعل للفن وظيفة نوعية فريدة في بابها وكأن الفن دائرة أرستقراطية هيهات لأي فرد عادي أن ينفذ إليها
د. الدور الخطابي في بيان الحق و إدانة الظلم :
يقول سارتر إن وظيفة الكاتب هي تأكيد أنه ما من إنسان يستطيع أن يظل جاهلا بالعالم ومن ثم يزعم أنه بريء وهو لهذا يدين الروائي الفرنسي فلوبير لأنه صمت خلال مذابح باريس أيام الكومونة ، يقول : ( أنا اعتبر فلوبير و الأخوين جونكور مسؤولين عن المذابح التي أعقت كومونة باريس سنة 1871 لأنهم لم يكتبوا سطرا واحدا للحيلولة دون وقوع هذه المذبحة ) فالناثر عند سارتر مقاتل يحمل سلاحا وعليه أن يحسن توجيه السلاح يقول : ( إن الكلمات مسدسات محشوة و إذا تحدث الكاتب فإنه إنما يطلق النار حتما ، لقد كان في وسعه أن يصمت ولكن ما دام قد اختار لنفسه أن يطلق النار كيفما اتفق ومغلفا عينيه مقتصرا على التلذذ بسماع أصوات الطلقات وهي تدوي من بعيد ) إن جوهر الالتزام عند سارتر هو الحرية بحكم أن الكاتب لم يرغمه أحد على اختيار مهنة الكتابة فالحرية أصيلة في هذه المهنة وعليه أن يبعث الوعي بالحرية .
*******************************
سادسا : وظيفة الفن الإيهامية : وهي خلق عالم خيالي جميل
يقول برجسون عن الفنان : أنه ( ذلك الإنسان الذي يرى ، فلا يملك سوى أن يفتح عيون الآخرين لكي يجعلهم يرون ما هم في العادة غافلون عنه ) والفنان لا يكشف إلا عن الظاهر لا الواقع و الحق أننا حينما نتأمل بعض اللوحات أو حينما نستمع إلى بعض الألحان فإننا لا ننفذ على أغوار الواقع و لا نزيح النقاب عن الحقيقة بل نحن نسير وراء الفنان لكي ننفذ معه إلى عالمه الجمالي الخاص ، بما فيه من مظاهر و أخيلة و قيم وكيفيات ولعل هذا ما حدا ببعض علماء الجمال إلى القول بأن مهمة الفنان هي أن ينكر الواقع لكي يعيد تركيبه لحسابه الخاص وهذا هو السر في أن ( الأسطورة ) قد لعبت دوما دورا هاما في معظم الفنون ، فليس الفن اتصالا مباشرا بالأشياء ، وكأن الفنان مجرد نفسية سلبية لا تكاد تكف عن الاهتزاز على إيقاع الطبيعة بل إن الفن في الحقيقة هو لهو أولا و بالذات حيلة يصطنعها الإنسان الصانع لخلق عالم جمالي يجيء على صورته ومثاله ، و معنى هذا أن الفن ديالكتيك حسي يقوم على الذكاء و المهارة
ويرى برجسون أن مهمة الفنان هي تحوير العالم لا مجرد الكشف عنه
عبد العالي- زائر
مواضيع مماثلة
» وظائف الفن
» وظائف الفن_ح3
» النحات .. لمحات مضيئة من تاريخ الفن (26)
» الفن التشكيلي يزدهر في امريكا اللاتينية
» الفن الياباني التقليدي للنحت على الحلوى"Amezaiku"
» وظائف الفن_ح3
» النحات .. لمحات مضيئة من تاريخ الفن (26)
» الفن التشكيلي يزدهر في امريكا اللاتينية
» الفن الياباني التقليدي للنحت على الحلوى"Amezaiku"
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى