وظائف الفن_ح3
صفحة 1 من اصل 1
وظائف الفن_ح3
القسم الثاني : وظائف الفن بالنسبة للمبدع
ما هي وظيفة الفن بالنسبة للفنان نفسه ؟؟
يقصر هنري برجسون (1859 – 1941 ) مهمة الفنان على الإدراك و العيان و الحدس ، حين يقرر أن عين الفنان تملك حدسا جماليا تستطيع معه أن تحقق ضربا من الاتحاد على موضوعها فإنه في الحقيقة إنما ينسب إلى الفنان مقدرة صوفية لا تعيننا كثيرا على فهم جوهر عملية الإبداع الفني
ولكن الحقيقة أن الفن يحقق للمبدع أمورا أخرى تفوق هذا الاتحاد الذي أشار إليه برجسون .
وتتمثل وظائف الفن بالنسبة للمبدع فيما يلي :
أولا : الفن يهب الفنان مساحة من الحرية :
يعتبر كانت الفن ثمرة من ثمار الحرية بمعنى أنه لا يصدر إلا عن إرادة حرة تبني أفعالها على العقل ، فالفن يتصف بأنه نشاط حر موجه إلى الذات لإحداث بهجة جمالية منزهة عن الهوى و الغاية المحددة ، أي أنه ليس موجها إلى ملكة المعرفة العقلية بل موجه إلى الجميع وهو ضروري
فالفن نشاط حر و الحرفة فن مأجور ، وقد أحال كانت الفن من علاقته بالواقع إلى علاقته بذاته ، علاقة تنظيم محتوياته بشكل منزه عن الغرض الجزئي و بشكل يبعث اللذة الجمالية عند الجميع .
و يرى سانتيانا أن للفن وظيفة هامة حيوية لأنه يضمن لنا الانتقال من مرحلة النشاط المقيد إلى مستوى النشاط الحر ، فالإنسان يجد نفسه أسيرا لبعض الضرورات العملية و المهم الواقعية ، وسرعان ما يتحقق أن في وسعه تعديل بيئته وخلق الجو الملائم لغاياته ، فيستغل ما في الواقع من إمكانيات أملا أن يهبط بمثله الأعلى إلى عالم الواقع محققا لنفسه ضربا أسمى من الإشباع ، و إذا استطاع الإنسان أن يحقق التناسق بين أفكاره من جهة و أفعاله من جهة أخرى ، فهنالك يكون في وسعه أن يضمن لنفسه من النجاح والانتصار ما يكفل له الرضا أو الاستمتاع ، وهنا يجيء الفن فيكون بمثابة نظام للقلب و للخيال يعلم صاحبه ذلك العمل الشاق الذي لا بد له من النهوض به للوصول إلى حالة الإشباع وهو العمل الضروري لبناء الحياة وتحقيق الأعمال الناجحة ، وحين يتحرر المرء من عبودية الطبيعة ليصل إلى حرية الروح فلا يعود رائده الإنتاج من أجل الاستهلاك ثمرة فعله ، بل في وسعه أن يتأمل الأعمال التي أنتجها باعتبارها أعمالا جميلة تعبر عن نشاطه الإبداعي الخاص ، فلا يعود الفن مجد مدرسة للحياة ، بل يكون بمثابة الصانع الذي ينتج لنفسه ما هو في حاجة إلى استهلاكه أو بمثابة الحارث الذي يحصد ثمار عمله ، ولا شك أن النشاط الفني هو مظهر لاستمتاع العقل البشري بأعظم ثمرات إنتاجه و أسمى آيات إبداعه
أما يوهان فريدريك شيلر( 1759 – 1805 م ) فيعلي من شأن الحرية يقول : ( من خلال الجمال نصل إلى الحرية ) ، ( الفن هو ربيب الحرية ويجب أن يتلقى رسالته من احتياجات الروح لا المادة ) ، ويذهب شيلر إلى أبعد من ذلك حين يستهدف خلق دولة جمالية جوهرها الحرية : ( يجب التعبير من دولة الحاجة إلى دولة الحرية وهذه الدولة الجمالية ليست موجودة في الخارج ) ويوضح : ( الدولة الجمالية موجودة في كل نفس متناغمة وحيث تتحكم طبقة الناس الجميلة في السلوك ) و يضيف : ( كل شيء في الدولة الجمالية حتى الأداة الخادمة التابعة هو مواطن حر له حقوق متساوية مع أنبل الناس )
فالفن في جوهره لدى شيلر الحرية ، و الحرية جوهرها الجمال ، و الجمال جوهره اللعب ، و اللعب هو الذي سيحقق الإنسان بمعناه الحقيقي يقول : ( إن دافع اللعب سيرغم العقل أخلاقيا وفيزيائيا في الوقت نفسه وسيفعل هذا حيث يلغي مجرد الصدفة ويلغي كل إرغام أيضا ويطلق الإنسان حرا فيزيائيا و خلقيا )
ويقول : ( بمجرد وجود الضوء داخله لا يعود هناك أي ليل خارجه ، بمجرد أن يسود الهدوء داخل نفسه فإن عاصفة الكون تخمد أيضا ) أي أن اللعب يحول الوحش إلى إنسان ، يقول : ( أي نوع من الظواهر ذلك الذي يقرب الوحش إلى الإنسانية ؟ إنه الابتهاج داخل الظواهر ، سعي نحو الزخرف و اللعب ) و إذا تولد الجمال تولدت اللذة الجمالية الحرة ولهذا يصبح الفن نوعا من الفرح .. يقول شيلر : ( وسط عالم القوى المخيف ، ووسط عالم القوانين المقدس فإن الدافع الخلاق الجمالي إنما يعني عالما فرحا ثالثا للعب و المظهر فيه يطلق الفنان البشرية محررا إياها من كل عقبات الظروف ، ويحرر الإنسان من كل ما يسميه قيدا سواء كان فيزيائيا أم خلقيا )
إن الحرية عند شيلر هي اللعب ، لكن ليس اللعب لهوا وتخليا عن المسؤولية بل هو الإنتاج وفق مقتضيات العقل ووفق النظام ودون قسر خارجي ، يقول : ( إحراز الحرية عن طريق الحرية هو القانون الأساسي لمملكة اللعب الحر ، مملكة الجمال )
ويرى أن الجمال هو وسيلة الإنسان للخروج من طابعه اجتماعيا فكأنه يرى أن الجمال يوقظ البشر ويؤثر في الذوق وتحدث المشاركة الاجتماعية ، يقول : ( الذوق وحده يحدث التناغم في المجتمع لأنه يؤسس التناغم في الفرد ) ويوسع شيلر من دائرة الحرية و يجعلها هذه المرة الحياة .
إن الجمال هو عبارة عن قيام الحرية في المظهر ، وبهذه الوظيفة الجمالية للفن عن شيلر هي أنها قوة كبرى كفيلة بالقضاء على حالة الاغتراب ويترتب على هذا قيام حضارة كبرى وهو رهن بتحول الوجود البشري إلى لعب لا على عمل .
اللعب عند شيلر :
نشاط إنساني خاص يتميز بأنه حر ، عكس النشاط النفعي الذي تفرضه الحاجة
ويحمل طابعا وحيد الجانب ، ففي اللعب تعمل كل قوى الإنسان بتناسق ، إن الفن كلعب مبهج في حين أن الحياة جدية
أما سارتر فيرى بأن الأدب ليس له إلا موضوع واحد هو الحرية ، ولقد قال إن موضوع الأدب دائما هو الإنسان في العالم ، ويقول صراحة : ( فليكن المؤلف كاتب رسائل أو مقالات أو هجاء أو قصصيا ، وليقتصر في حديثه على عواطف فردية أو ليهاجم نظام المجتمع فهو في كل أحواله الرجل الحر ، يتوجه إلى الأحرار من الناس وليس سوى موضوع واحد هو الحرية ) ويقول : ( لا توجد جبرية ، الإنسان حر ، الإنسان هو الحرية )
ويقول سارتر عن القراءة إنها تعاقد كريم حر بين المؤلف و القارئ فيثق كل منهما في الآخر ويعتمد عليه و تتطلب منه ما يتطلبه من نفسه لأن هذه الثقة نفسها كرم وحرية ، و الفن كله حرية ، فإذا قدم لنا الفنان حقلا أو زهرة فلوحاته نوافذ مطلة على العالم بأجمعه ، فالكتابة كشف للعالم وهو شهادة بالثقة في حرية الناس وينص سارتر على أن جوهر العمل الأدبي حقا هو الكشف عن الحرية ، و القصد من ذلك الدعوة لحرية الآخرين .
************************
ثانيا : الفن يطهر انفعالات و مشاعر الفنان (( الكاثرسيس )) :
ويقرر آلان أن للفن مضمونا أخلاقيا يتمثل في التسامي بأرواحنا ومساعدتنا على مقاومة أهوائنا ، ومعنى هذا أن للفن صبغة تطهيرية تجعل منه أداة فعالة لتنظيم البدن وتصفية الأهواء وتنقية الانفعالات ، يضرب لنا مثلا بالموسيقى فيقول : إن النغم صورة مهذبة للصياح بحيث إن الموسيقى تبدو بمثابة تنظيم لتلك الأصوات التي يصدرها الإنسان حين يئن أو يصيح أو يتأوه أو ينتحب ، وهكذا الحال بالنسبة للغناء و الرقص وغيرهما من الفنون ، فإن الإنسان لا يتخذ من التعبير الفني سوى مجرد أداة لتنظيم انفعالاته ، ويقول :
إن من شأن الفنون أن تساعدنا على الشعور بذواتنا و التعرف على حقيقة مشاعرنا ، فهي أشبه ما تكون بمرآة حقيقية للنفس تنعكس على صفحتها كل أهوائنا و عواطفنا وانفعالاتنا و أفكارنا ، و الواقع أن كانت هناك علاقة وثيقة بين الفن والأخلاق لأن الفنون الجميلة تطهر أهوائنا وتنقي انفعالاتنا وتحقق ضربا من التوافق بين أحاسيسنا و أفكارنا ، أو بين رغباتنا وواجباتنا ، أننا نشعر بالسعادة العميقة إذا رأينا الشيء الجميل لأننا نستشعر توافقا عجيبا هو الذي ينتزع من نفوسنا كل إحساس بالصراع أو التمزق و كأن الإحساس بالجمال يقترن في نفوسنا بإحساس أخلاقي هو الشعور بالسلم و الطمأنينة أو التوافق النفسي ، يقول : ليس من شأن الأعمال الأدبية و الموسيقية أن تنظم أهوائنا و تشيع في نفوسنا التناسق و الانتظام فحسب ، بل و تقمع ما في ذاتيتنا من جزئية لكي تحيل الجزئي فينا إلى كلي ، فالأعمال الفنية تُهيب بذاتنا أن تخرج من أفقها الضيق المحدد لتقف من العمل الفني موقفا سمحا ملؤه الفهم و الوعي و التقدير ، و الذوق هو الوسيلة التي تسمو بالمتأمل إلى المستوى الجمالي الذي يستطيع عنده أن يدرك العنصر الكلي فيما هو بشري ، لإن من شأن العمل الفني أن يفتح أمامنا العالم الإنساني الكلي الذي لا يحده زمان ولا مكان ، وهو عالم ( الانسجام ) الذي طالما حدثنا به أفلاطون .
و يوافقه كروتشة حين يقول إن الفنان حين يصوغ انطباعاته أو يشكل أحاسيسه فإنه في الحقيقة إنما يتحرر منها ، فالفنان الذي يخلع على انطباعاته طابعا موضوعيا ، إنما يفصلها عنه لكي يعلو عليها ، و إذا كان للفن وظيفة تطهيرية أو تحريرية فذلك لأنه يمثل نشاطا إيجابيا تتجلى فيه قدرة الفنان على التحرر من أحاسيسه وانطباعاته ، وليست السكينة التي يتمتع بها كبار الفنانين سوى نتيجة لسيطرتهم على الفوضى الداخليه لعواطفهم ، وتحكمهم في الشغب الباطني لأحاسيسهم بحيث تجيء أعمالهم الفنية فتكون بمثابة تأكيد خارجي لهذا الانتصار الباطني ، فالفنان الذي يتحرر من أحاسيسه بفضل جهده التعبيري ، لا يقوم بهذا النشاط من أجل الآخرين ، بل يحققه لنفسه أولا وقبل كل شيء
**********************
ثالثا : الفن يقضي على اغتراب الإنسان وتشيئه :
وجد فريديك هيجل ( 1770 – 1831 م ) أن الفن يعيش في حالة غربة في عصره ، فالعالم المعاصر في زمنه معادِ للجمال حيث تكالب الجميع على الكسب المادي وتغلغل الحس التجاري ، و العصر عصر اغتراب ، فيه فقدت الروح ذاتها الحقيقية ، واكتسبت ذاتا زائفة محصورة في أضيق المصالح الأنانية وقد غرقت في العالم الواقعي ، وهيجل لا يريد أن يستسلم لهذا ، فهو لا يريد للغربة أن تكون لها اليد العليا ، فالنفس الممزقة و المهتزة من جراء صراعات العالم سوف تستعيد نفسها من هذا التفكك وتعود إلى ذاتها و إلى وحدتها وسكونها الجوهريين في العمل الفني ، ولما كان الفن في عصره قد فقد جوهره الحق وهو الدفاع عن أعمق المصالح البشرية فإن الحاجة تكون ماسة لقيام علم الفن أو علم الجمال . يقول : ( إن علم الفن هو حاجة أكثر إلحاحا في أيامنا عما كان الأمر في الأزمنة التي كان فيها الفن بكل بساطة كفن كافيا لتاسيس إشباع كامل . إن الفن يدعونا إلى تدعيمه عن طريق الفكر لا من أجل باعث الإنتاج الفني ولكن لكي نؤكد علميا ماهية الفن ) ..
ويرى هيجل بأن ما يميز الإنسان هو قدرته على التعبير عن افكاره من خلال اللغة و الفن ، فكـأنما الإنسان عند هيجل لا ينتج وفق الحاجة فحسب بل وفق مقاييس الجمال
و يربط هيجل الفن بمحاولة الإنسان القضاء على اغترابه وتشيئه ..
( ويتحقق الإنسان لذاته بالنشاط العملي بقدر ما أن لديه دافعا في الوسيط الذي يعطي مباشرة لنفسه ويعرض خارجا أمام نفسه لإنتاج نفسه وفي ذات الوقت نفسه يدرك نفسه ) .. فالفن هو مضاعفة الإنسان لكي يرى ذاته الحقيقية تتموضع في عمل خارجي كي تتخارج .. يقول : ( الإنسان يفعل هذا لكي يتمكن كذات من سلب العالم الخارجي من غربته الحرون وكي يتمتع في شكل الأشياء ونسقها بحقيقة خارجية عن نفسه . حتى الدافع الأول للطفل يتضمن هذا التعديل العملي للأشياء الخارجية ، فالطفل يقذف الأحجار في النهر ثم يقف معجبا بالدوائر التي ترتسم على الماء يحرز فيه رؤية شيء من فعله )
و يرى هيجل الإنسان سجينا في قبضة الواقع المباشر الحسي و لابد أن يتحرر من هذا السجن بالارتفاع على الواقع ، وهذا جوهر الحرية ، ويجسد هذا في الفن ، يقول في (المقدمة) : ( إننا في جانب نرى الإنسان سجينا في الواقع العام و الزمانية الدنيوية مقهورا بالحاجة و العوز ومساقا بالطبيعة وسجينا في المعاناة وفي الأهداف و المتع الحسية ، ومن جانب آخر يرفع نفسه إلى المثل الخالدة ، إن عالم الفكر و الحرية وهو يفرض على نفسه ك إرادة قوانين عامة وصفات مطلقة ويسلب العالم من واقعها الحي و المزدهر ويحيله إلى تجريدات )
*******************************
رابعا : الفن يزيد من ثراء تجاربنا الباطنية :
يرى سانتيانا أن البعض يضع الفن في مستوى أدنى بكثير من مستويات العلم أو الدين أو الأخلاق أو الفلسفة ، وهؤلاء يتناسون أن الفن يزيد من ثراء تجارنا الباطنية و أن الكشف عن الجمال هو أكبر دليل على إمكان تحقيق الخير الأسمى في صميم التجربة البشرية ، و الحق أن الفن هو الشكل الوحيد من أشكال الفعل الذي يستطيع أن يزودنا بالتحقق المثالي الذي لا تستطيع التجربة أن توفره لنا إلا في القليل النادر وهو اتحاد الحياة و السلام معا ، ولذا فالجهد الأخلاقي كثيرا ما يصطبغ بصبغة جمالية خصوصا إذا تسنى لهذا الجهد أن يتحقق في وسط أكثر حرية ، و إذا كانت الرابطة وثيقة بين علم الجمال و علم الأخلاق لأنه يريد إخضاع القيم الجمالية للقيم الأخلاقية أو العكس فثمة تبادلا في نظره بين الأعمال الفنية و أفعال الحياة ، و لأن جمال الفن لا يمكن أن ينفصل عن إنسانية السلوك ، وهنا لا بد أن نعترف أن الجهد الأسمى الذي يبذله الإنسان لكي يحيا بمعنى الكلمة هو الجهد الذي يتجلى في خلق الجمال وتذوق الآثار الجمالية ، و إذا كان هناك معنى للعمل الشاق الذي يقوم به الإنسان طوال حياته فذلك المعنى لن ينفصل عن سعادة الاستمتاع بالانسجام ولذة الشعور بالجمال :
إذن الخبرة الجمالية هي الخبرة الممتازة التي تحقق ضربا من التوافق بين مسار أفكارنا ومسار الطبيعة ، أو بين عقلنا و تجربتنا ، وهكذا تتلاقى الكلمة النهائية في كتاب العقل و الفن مع الكلمة النهائية في كتاب الإحساس بالجمال ما دام انبثاق الفن ابتداء من الغرائز إنما هو المعيار الصحيح لنجاح الطبيعة وسعادة الإنسان .
****************************
خامسا : الفن يحقق الفعالية الفنية :
وهي الأكثر بروزا والمقصود بها الوظيفة الفنية الأسلوبية التي للصناعة ، فهي في الموسيقى تحقيق (( فكرة موسيقية )) ليس لها إلا الأنغام لغة ، وهي عند الشاعر حياة الإيقاعات الخاصة ، وعند الرسام العالم التجسيدي حيث لا حقيقة سوى الأشكال و الألوان . و الفنون المطبوعون يمارسون هذه الوظائف لأن لديهم عناصرها ، وليس لهم هدف مباشر سوى إبراز فنهم (( نظرية الفن للفن ))
و غالبا ما يعبر الفن عن شخصية مؤلفه :
غالبا ما يرددون أن الفن يجب أن يعبر عن شخصية مؤلفه ، وانه بقدر ما يكون شخصيا يكون جميلا ، أما فقدان الطابع الشخصي أو فقدان الصدق في التعبير فيكونان لدى القوم دليلا من دلائل القبح ، يؤيد ذلك نظرية كروتشة عن الحدس – التعبير ، والتي تؤكد على ان وظيفة العمل الفني لا تبرز إلا بالتعبير ولا يصدر التعبير إلا بإحساس أو بانفعال جزئي أو كلي ، وتثبت هذه النظرية بأن كل عمل فني يمتاز بطابع الفردية و أنه لا يشه أي عمل سواه ، وأي محاكاة له تعتبر عمياء لأنها لا تشكل إبداعا و إنما هي مجرد حرفة أو مهنة .
ولكن الحقيقة أن العمل الفني يخلق عالما خياليا ، وحتى لو كان العمل واقعيا ، فالعالم الذي ينقلنا إليه ليس بأقل من وهم ابتدعه قلم شاعر أو ريشة رسام .
للفن آثار جمة متغلغلة في فكر الشعوب ، وفي حضارات الأمم ، بكل صوره و ألوانه وأشكاله ، فهو سجل إنجازات وسفر تاريخ ..
وقد نظر فلاسفة ومفكروا العصر الحديث إلى آثاره ووظائفه فوجدوها متنوعة تمتد على الأصعدة الأخلاقية و السياسية و الاجتماعية والاقتصادية و الترفيهية ..
ووجدوا في الفن مساحة حرية تهب المبدع متنفسا يفرّغ فيه طاقاته ، ويتوازن من خلاله روحيا ، ويجتث الضار من انفعالاته و أهوائه ، ويجد في ظلاله المتعة واللذة و الترف الذهني التي ينشدها ، فالفن كما يراه البعض لعب حر غاياته سامية و أهدافه نبيلة ..
و إن اختلف بعض الفلاسفة في نفعية الفن أو اصطباغه بصبغة أخلاقية ، عادوا ليقرروا وجوب ممارسة الفن كواجب مقدس ، وما يمليه ذلك من الفضيلة و الخلق النبيل .
ولذلك على الفنان أن يلحظ ذلك أثناء تأدية فنه ، و أن يضع في حسبانه أن الفن خالد ، و أن الأجيال القادمة ستفيد من فنه وتنهل من عطائه ، وتمحص المعاني و الأفكار التي يريد تقريرها من خلال كلمة أو بيت شعر، أو لوحة تشكيلية ، أو سيمفونية موسيقية ، أو تمثال منحوت ، أو حركات إيقاعية ..
..................................
*هذا بحث قدمته في مادة علم الجمال الحديث / جامعة الملك سعود بالرياض / قسم الأدب و النقد / كلية الدراسات العليا أثناء الفترة التحضيرية لإعداد رسالة الماجستير .رباب حسين النمر.من منتديات ازاهير الادبية
ما هي وظيفة الفن بالنسبة للفنان نفسه ؟؟
يقصر هنري برجسون (1859 – 1941 ) مهمة الفنان على الإدراك و العيان و الحدس ، حين يقرر أن عين الفنان تملك حدسا جماليا تستطيع معه أن تحقق ضربا من الاتحاد على موضوعها فإنه في الحقيقة إنما ينسب إلى الفنان مقدرة صوفية لا تعيننا كثيرا على فهم جوهر عملية الإبداع الفني
ولكن الحقيقة أن الفن يحقق للمبدع أمورا أخرى تفوق هذا الاتحاد الذي أشار إليه برجسون .
وتتمثل وظائف الفن بالنسبة للمبدع فيما يلي :
أولا : الفن يهب الفنان مساحة من الحرية :
يعتبر كانت الفن ثمرة من ثمار الحرية بمعنى أنه لا يصدر إلا عن إرادة حرة تبني أفعالها على العقل ، فالفن يتصف بأنه نشاط حر موجه إلى الذات لإحداث بهجة جمالية منزهة عن الهوى و الغاية المحددة ، أي أنه ليس موجها إلى ملكة المعرفة العقلية بل موجه إلى الجميع وهو ضروري
فالفن نشاط حر و الحرفة فن مأجور ، وقد أحال كانت الفن من علاقته بالواقع إلى علاقته بذاته ، علاقة تنظيم محتوياته بشكل منزه عن الغرض الجزئي و بشكل يبعث اللذة الجمالية عند الجميع .
و يرى سانتيانا أن للفن وظيفة هامة حيوية لأنه يضمن لنا الانتقال من مرحلة النشاط المقيد إلى مستوى النشاط الحر ، فالإنسان يجد نفسه أسيرا لبعض الضرورات العملية و المهم الواقعية ، وسرعان ما يتحقق أن في وسعه تعديل بيئته وخلق الجو الملائم لغاياته ، فيستغل ما في الواقع من إمكانيات أملا أن يهبط بمثله الأعلى إلى عالم الواقع محققا لنفسه ضربا أسمى من الإشباع ، و إذا استطاع الإنسان أن يحقق التناسق بين أفكاره من جهة و أفعاله من جهة أخرى ، فهنالك يكون في وسعه أن يضمن لنفسه من النجاح والانتصار ما يكفل له الرضا أو الاستمتاع ، وهنا يجيء الفن فيكون بمثابة نظام للقلب و للخيال يعلم صاحبه ذلك العمل الشاق الذي لا بد له من النهوض به للوصول إلى حالة الإشباع وهو العمل الضروري لبناء الحياة وتحقيق الأعمال الناجحة ، وحين يتحرر المرء من عبودية الطبيعة ليصل إلى حرية الروح فلا يعود رائده الإنتاج من أجل الاستهلاك ثمرة فعله ، بل في وسعه أن يتأمل الأعمال التي أنتجها باعتبارها أعمالا جميلة تعبر عن نشاطه الإبداعي الخاص ، فلا يعود الفن مجد مدرسة للحياة ، بل يكون بمثابة الصانع الذي ينتج لنفسه ما هو في حاجة إلى استهلاكه أو بمثابة الحارث الذي يحصد ثمار عمله ، ولا شك أن النشاط الفني هو مظهر لاستمتاع العقل البشري بأعظم ثمرات إنتاجه و أسمى آيات إبداعه
أما يوهان فريدريك شيلر( 1759 – 1805 م ) فيعلي من شأن الحرية يقول : ( من خلال الجمال نصل إلى الحرية ) ، ( الفن هو ربيب الحرية ويجب أن يتلقى رسالته من احتياجات الروح لا المادة ) ، ويذهب شيلر إلى أبعد من ذلك حين يستهدف خلق دولة جمالية جوهرها الحرية : ( يجب التعبير من دولة الحاجة إلى دولة الحرية وهذه الدولة الجمالية ليست موجودة في الخارج ) ويوضح : ( الدولة الجمالية موجودة في كل نفس متناغمة وحيث تتحكم طبقة الناس الجميلة في السلوك ) و يضيف : ( كل شيء في الدولة الجمالية حتى الأداة الخادمة التابعة هو مواطن حر له حقوق متساوية مع أنبل الناس )
فالفن في جوهره لدى شيلر الحرية ، و الحرية جوهرها الجمال ، و الجمال جوهره اللعب ، و اللعب هو الذي سيحقق الإنسان بمعناه الحقيقي يقول : ( إن دافع اللعب سيرغم العقل أخلاقيا وفيزيائيا في الوقت نفسه وسيفعل هذا حيث يلغي مجرد الصدفة ويلغي كل إرغام أيضا ويطلق الإنسان حرا فيزيائيا و خلقيا )
ويقول : ( بمجرد وجود الضوء داخله لا يعود هناك أي ليل خارجه ، بمجرد أن يسود الهدوء داخل نفسه فإن عاصفة الكون تخمد أيضا ) أي أن اللعب يحول الوحش إلى إنسان ، يقول : ( أي نوع من الظواهر ذلك الذي يقرب الوحش إلى الإنسانية ؟ إنه الابتهاج داخل الظواهر ، سعي نحو الزخرف و اللعب ) و إذا تولد الجمال تولدت اللذة الجمالية الحرة ولهذا يصبح الفن نوعا من الفرح .. يقول شيلر : ( وسط عالم القوى المخيف ، ووسط عالم القوانين المقدس فإن الدافع الخلاق الجمالي إنما يعني عالما فرحا ثالثا للعب و المظهر فيه يطلق الفنان البشرية محررا إياها من كل عقبات الظروف ، ويحرر الإنسان من كل ما يسميه قيدا سواء كان فيزيائيا أم خلقيا )
إن الحرية عند شيلر هي اللعب ، لكن ليس اللعب لهوا وتخليا عن المسؤولية بل هو الإنتاج وفق مقتضيات العقل ووفق النظام ودون قسر خارجي ، يقول : ( إحراز الحرية عن طريق الحرية هو القانون الأساسي لمملكة اللعب الحر ، مملكة الجمال )
ويرى أن الجمال هو وسيلة الإنسان للخروج من طابعه اجتماعيا فكأنه يرى أن الجمال يوقظ البشر ويؤثر في الذوق وتحدث المشاركة الاجتماعية ، يقول : ( الذوق وحده يحدث التناغم في المجتمع لأنه يؤسس التناغم في الفرد ) ويوسع شيلر من دائرة الحرية و يجعلها هذه المرة الحياة .
إن الجمال هو عبارة عن قيام الحرية في المظهر ، وبهذه الوظيفة الجمالية للفن عن شيلر هي أنها قوة كبرى كفيلة بالقضاء على حالة الاغتراب ويترتب على هذا قيام حضارة كبرى وهو رهن بتحول الوجود البشري إلى لعب لا على عمل .
اللعب عند شيلر :
نشاط إنساني خاص يتميز بأنه حر ، عكس النشاط النفعي الذي تفرضه الحاجة
ويحمل طابعا وحيد الجانب ، ففي اللعب تعمل كل قوى الإنسان بتناسق ، إن الفن كلعب مبهج في حين أن الحياة جدية
أما سارتر فيرى بأن الأدب ليس له إلا موضوع واحد هو الحرية ، ولقد قال إن موضوع الأدب دائما هو الإنسان في العالم ، ويقول صراحة : ( فليكن المؤلف كاتب رسائل أو مقالات أو هجاء أو قصصيا ، وليقتصر في حديثه على عواطف فردية أو ليهاجم نظام المجتمع فهو في كل أحواله الرجل الحر ، يتوجه إلى الأحرار من الناس وليس سوى موضوع واحد هو الحرية ) ويقول : ( لا توجد جبرية ، الإنسان حر ، الإنسان هو الحرية )
ويقول سارتر عن القراءة إنها تعاقد كريم حر بين المؤلف و القارئ فيثق كل منهما في الآخر ويعتمد عليه و تتطلب منه ما يتطلبه من نفسه لأن هذه الثقة نفسها كرم وحرية ، و الفن كله حرية ، فإذا قدم لنا الفنان حقلا أو زهرة فلوحاته نوافذ مطلة على العالم بأجمعه ، فالكتابة كشف للعالم وهو شهادة بالثقة في حرية الناس وينص سارتر على أن جوهر العمل الأدبي حقا هو الكشف عن الحرية ، و القصد من ذلك الدعوة لحرية الآخرين .
************************
ثانيا : الفن يطهر انفعالات و مشاعر الفنان (( الكاثرسيس )) :
ويقرر آلان أن للفن مضمونا أخلاقيا يتمثل في التسامي بأرواحنا ومساعدتنا على مقاومة أهوائنا ، ومعنى هذا أن للفن صبغة تطهيرية تجعل منه أداة فعالة لتنظيم البدن وتصفية الأهواء وتنقية الانفعالات ، يضرب لنا مثلا بالموسيقى فيقول : إن النغم صورة مهذبة للصياح بحيث إن الموسيقى تبدو بمثابة تنظيم لتلك الأصوات التي يصدرها الإنسان حين يئن أو يصيح أو يتأوه أو ينتحب ، وهكذا الحال بالنسبة للغناء و الرقص وغيرهما من الفنون ، فإن الإنسان لا يتخذ من التعبير الفني سوى مجرد أداة لتنظيم انفعالاته ، ويقول :
إن من شأن الفنون أن تساعدنا على الشعور بذواتنا و التعرف على حقيقة مشاعرنا ، فهي أشبه ما تكون بمرآة حقيقية للنفس تنعكس على صفحتها كل أهوائنا و عواطفنا وانفعالاتنا و أفكارنا ، و الواقع أن كانت هناك علاقة وثيقة بين الفن والأخلاق لأن الفنون الجميلة تطهر أهوائنا وتنقي انفعالاتنا وتحقق ضربا من التوافق بين أحاسيسنا و أفكارنا ، أو بين رغباتنا وواجباتنا ، أننا نشعر بالسعادة العميقة إذا رأينا الشيء الجميل لأننا نستشعر توافقا عجيبا هو الذي ينتزع من نفوسنا كل إحساس بالصراع أو التمزق و كأن الإحساس بالجمال يقترن في نفوسنا بإحساس أخلاقي هو الشعور بالسلم و الطمأنينة أو التوافق النفسي ، يقول : ليس من شأن الأعمال الأدبية و الموسيقية أن تنظم أهوائنا و تشيع في نفوسنا التناسق و الانتظام فحسب ، بل و تقمع ما في ذاتيتنا من جزئية لكي تحيل الجزئي فينا إلى كلي ، فالأعمال الفنية تُهيب بذاتنا أن تخرج من أفقها الضيق المحدد لتقف من العمل الفني موقفا سمحا ملؤه الفهم و الوعي و التقدير ، و الذوق هو الوسيلة التي تسمو بالمتأمل إلى المستوى الجمالي الذي يستطيع عنده أن يدرك العنصر الكلي فيما هو بشري ، لإن من شأن العمل الفني أن يفتح أمامنا العالم الإنساني الكلي الذي لا يحده زمان ولا مكان ، وهو عالم ( الانسجام ) الذي طالما حدثنا به أفلاطون .
و يوافقه كروتشة حين يقول إن الفنان حين يصوغ انطباعاته أو يشكل أحاسيسه فإنه في الحقيقة إنما يتحرر منها ، فالفنان الذي يخلع على انطباعاته طابعا موضوعيا ، إنما يفصلها عنه لكي يعلو عليها ، و إذا كان للفن وظيفة تطهيرية أو تحريرية فذلك لأنه يمثل نشاطا إيجابيا تتجلى فيه قدرة الفنان على التحرر من أحاسيسه وانطباعاته ، وليست السكينة التي يتمتع بها كبار الفنانين سوى نتيجة لسيطرتهم على الفوضى الداخليه لعواطفهم ، وتحكمهم في الشغب الباطني لأحاسيسهم بحيث تجيء أعمالهم الفنية فتكون بمثابة تأكيد خارجي لهذا الانتصار الباطني ، فالفنان الذي يتحرر من أحاسيسه بفضل جهده التعبيري ، لا يقوم بهذا النشاط من أجل الآخرين ، بل يحققه لنفسه أولا وقبل كل شيء
**********************
ثالثا : الفن يقضي على اغتراب الإنسان وتشيئه :
وجد فريديك هيجل ( 1770 – 1831 م ) أن الفن يعيش في حالة غربة في عصره ، فالعالم المعاصر في زمنه معادِ للجمال حيث تكالب الجميع على الكسب المادي وتغلغل الحس التجاري ، و العصر عصر اغتراب ، فيه فقدت الروح ذاتها الحقيقية ، واكتسبت ذاتا زائفة محصورة في أضيق المصالح الأنانية وقد غرقت في العالم الواقعي ، وهيجل لا يريد أن يستسلم لهذا ، فهو لا يريد للغربة أن تكون لها اليد العليا ، فالنفس الممزقة و المهتزة من جراء صراعات العالم سوف تستعيد نفسها من هذا التفكك وتعود إلى ذاتها و إلى وحدتها وسكونها الجوهريين في العمل الفني ، ولما كان الفن في عصره قد فقد جوهره الحق وهو الدفاع عن أعمق المصالح البشرية فإن الحاجة تكون ماسة لقيام علم الفن أو علم الجمال . يقول : ( إن علم الفن هو حاجة أكثر إلحاحا في أيامنا عما كان الأمر في الأزمنة التي كان فيها الفن بكل بساطة كفن كافيا لتاسيس إشباع كامل . إن الفن يدعونا إلى تدعيمه عن طريق الفكر لا من أجل باعث الإنتاج الفني ولكن لكي نؤكد علميا ماهية الفن ) ..
ويرى هيجل بأن ما يميز الإنسان هو قدرته على التعبير عن افكاره من خلال اللغة و الفن ، فكـأنما الإنسان عند هيجل لا ينتج وفق الحاجة فحسب بل وفق مقاييس الجمال
و يربط هيجل الفن بمحاولة الإنسان القضاء على اغترابه وتشيئه ..
( ويتحقق الإنسان لذاته بالنشاط العملي بقدر ما أن لديه دافعا في الوسيط الذي يعطي مباشرة لنفسه ويعرض خارجا أمام نفسه لإنتاج نفسه وفي ذات الوقت نفسه يدرك نفسه ) .. فالفن هو مضاعفة الإنسان لكي يرى ذاته الحقيقية تتموضع في عمل خارجي كي تتخارج .. يقول : ( الإنسان يفعل هذا لكي يتمكن كذات من سلب العالم الخارجي من غربته الحرون وكي يتمتع في شكل الأشياء ونسقها بحقيقة خارجية عن نفسه . حتى الدافع الأول للطفل يتضمن هذا التعديل العملي للأشياء الخارجية ، فالطفل يقذف الأحجار في النهر ثم يقف معجبا بالدوائر التي ترتسم على الماء يحرز فيه رؤية شيء من فعله )
و يرى هيجل الإنسان سجينا في قبضة الواقع المباشر الحسي و لابد أن يتحرر من هذا السجن بالارتفاع على الواقع ، وهذا جوهر الحرية ، ويجسد هذا في الفن ، يقول في (المقدمة) : ( إننا في جانب نرى الإنسان سجينا في الواقع العام و الزمانية الدنيوية مقهورا بالحاجة و العوز ومساقا بالطبيعة وسجينا في المعاناة وفي الأهداف و المتع الحسية ، ومن جانب آخر يرفع نفسه إلى المثل الخالدة ، إن عالم الفكر و الحرية وهو يفرض على نفسه ك إرادة قوانين عامة وصفات مطلقة ويسلب العالم من واقعها الحي و المزدهر ويحيله إلى تجريدات )
*******************************
رابعا : الفن يزيد من ثراء تجاربنا الباطنية :
يرى سانتيانا أن البعض يضع الفن في مستوى أدنى بكثير من مستويات العلم أو الدين أو الأخلاق أو الفلسفة ، وهؤلاء يتناسون أن الفن يزيد من ثراء تجارنا الباطنية و أن الكشف عن الجمال هو أكبر دليل على إمكان تحقيق الخير الأسمى في صميم التجربة البشرية ، و الحق أن الفن هو الشكل الوحيد من أشكال الفعل الذي يستطيع أن يزودنا بالتحقق المثالي الذي لا تستطيع التجربة أن توفره لنا إلا في القليل النادر وهو اتحاد الحياة و السلام معا ، ولذا فالجهد الأخلاقي كثيرا ما يصطبغ بصبغة جمالية خصوصا إذا تسنى لهذا الجهد أن يتحقق في وسط أكثر حرية ، و إذا كانت الرابطة وثيقة بين علم الجمال و علم الأخلاق لأنه يريد إخضاع القيم الجمالية للقيم الأخلاقية أو العكس فثمة تبادلا في نظره بين الأعمال الفنية و أفعال الحياة ، و لأن جمال الفن لا يمكن أن ينفصل عن إنسانية السلوك ، وهنا لا بد أن نعترف أن الجهد الأسمى الذي يبذله الإنسان لكي يحيا بمعنى الكلمة هو الجهد الذي يتجلى في خلق الجمال وتذوق الآثار الجمالية ، و إذا كان هناك معنى للعمل الشاق الذي يقوم به الإنسان طوال حياته فذلك المعنى لن ينفصل عن سعادة الاستمتاع بالانسجام ولذة الشعور بالجمال :
إذن الخبرة الجمالية هي الخبرة الممتازة التي تحقق ضربا من التوافق بين مسار أفكارنا ومسار الطبيعة ، أو بين عقلنا و تجربتنا ، وهكذا تتلاقى الكلمة النهائية في كتاب العقل و الفن مع الكلمة النهائية في كتاب الإحساس بالجمال ما دام انبثاق الفن ابتداء من الغرائز إنما هو المعيار الصحيح لنجاح الطبيعة وسعادة الإنسان .
****************************
خامسا : الفن يحقق الفعالية الفنية :
وهي الأكثر بروزا والمقصود بها الوظيفة الفنية الأسلوبية التي للصناعة ، فهي في الموسيقى تحقيق (( فكرة موسيقية )) ليس لها إلا الأنغام لغة ، وهي عند الشاعر حياة الإيقاعات الخاصة ، وعند الرسام العالم التجسيدي حيث لا حقيقة سوى الأشكال و الألوان . و الفنون المطبوعون يمارسون هذه الوظائف لأن لديهم عناصرها ، وليس لهم هدف مباشر سوى إبراز فنهم (( نظرية الفن للفن ))
و غالبا ما يعبر الفن عن شخصية مؤلفه :
غالبا ما يرددون أن الفن يجب أن يعبر عن شخصية مؤلفه ، وانه بقدر ما يكون شخصيا يكون جميلا ، أما فقدان الطابع الشخصي أو فقدان الصدق في التعبير فيكونان لدى القوم دليلا من دلائل القبح ، يؤيد ذلك نظرية كروتشة عن الحدس – التعبير ، والتي تؤكد على ان وظيفة العمل الفني لا تبرز إلا بالتعبير ولا يصدر التعبير إلا بإحساس أو بانفعال جزئي أو كلي ، وتثبت هذه النظرية بأن كل عمل فني يمتاز بطابع الفردية و أنه لا يشه أي عمل سواه ، وأي محاكاة له تعتبر عمياء لأنها لا تشكل إبداعا و إنما هي مجرد حرفة أو مهنة .
ولكن الحقيقة أن العمل الفني يخلق عالما خياليا ، وحتى لو كان العمل واقعيا ، فالعالم الذي ينقلنا إليه ليس بأقل من وهم ابتدعه قلم شاعر أو ريشة رسام .
للفن آثار جمة متغلغلة في فكر الشعوب ، وفي حضارات الأمم ، بكل صوره و ألوانه وأشكاله ، فهو سجل إنجازات وسفر تاريخ ..
وقد نظر فلاسفة ومفكروا العصر الحديث إلى آثاره ووظائفه فوجدوها متنوعة تمتد على الأصعدة الأخلاقية و السياسية و الاجتماعية والاقتصادية و الترفيهية ..
ووجدوا في الفن مساحة حرية تهب المبدع متنفسا يفرّغ فيه طاقاته ، ويتوازن من خلاله روحيا ، ويجتث الضار من انفعالاته و أهوائه ، ويجد في ظلاله المتعة واللذة و الترف الذهني التي ينشدها ، فالفن كما يراه البعض لعب حر غاياته سامية و أهدافه نبيلة ..
و إن اختلف بعض الفلاسفة في نفعية الفن أو اصطباغه بصبغة أخلاقية ، عادوا ليقرروا وجوب ممارسة الفن كواجب مقدس ، وما يمليه ذلك من الفضيلة و الخلق النبيل .
ولذلك على الفنان أن يلحظ ذلك أثناء تأدية فنه ، و أن يضع في حسبانه أن الفن خالد ، و أن الأجيال القادمة ستفيد من فنه وتنهل من عطائه ، وتمحص المعاني و الأفكار التي يريد تقريرها من خلال كلمة أو بيت شعر، أو لوحة تشكيلية ، أو سيمفونية موسيقية ، أو تمثال منحوت ، أو حركات إيقاعية ..
..................................
*هذا بحث قدمته في مادة علم الجمال الحديث / جامعة الملك سعود بالرياض / قسم الأدب و النقد / كلية الدراسات العليا أثناء الفترة التحضيرية لإعداد رسالة الماجستير .رباب حسين النمر.من منتديات ازاهير الادبية
عبد العالي- زائر
رد: وظائف الفن_ح3
احسنت اخي عبد العالي
يمكنك المساهمة في المنتدى وفي كل ابوابه ..التسجيل لا يأخذ منك اكثر من دقيقة واحدة.
شكرا لك على كل حال..ومرحبا بك عضوا مشاركا متى تشاء.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى