منتديات الفن الجميل
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

التصوّف والمحبة في شعر رابندرانات طاغور3

اذهب الى الأسفل

التصوّف والمحبة في شعر رابندرانات طاغور3 Empty التصوّف والمحبة في شعر رابندرانات طاغور3

مُساهمة من طرف nora90 الأربعاء مايو 06, 2015 5:54 pm

التصوّف والمحبة في شعر رابندرانات طاغور3




وفي الحقيقة، أن طاغور قد وهب لشعرهِ دمًا جديدًا، وأمدّه بنسغ الحياة، وبث فيه رعشةً وحركةً وانطلاقًا، فنحن لا نسعى حين نقرأ شعره الى الفكرة التي تضمنتها ولكنها هي التي تأتي وتدخل أغوار النفس بما فيها من فائدة ومنفعة وعبرة، وفي حديثه عن الموت، يصوّر بايجازٍ وتكثيف حياته، ويسوق كلماتٍ تفيضُ بالفطنة والخير والصدق، والتأكيد المستمر لتقديس الطبيعة كي تعين ذهنه المتدين الصحيح:

عندما أرحلُ بعيدًا عن هذا المكان
فستكون هذه كلمتي الأخيرة
إن ما رأيته لا يمكن أن يدانيه أو يسمو عليه شيءٌ
لقد تذوقتُ طعم العسل الخفيّ
لزهرِ اللوتس الذي ينتشرُ في بحارِ النورِ
وكانت حياتي مباركةً
وتلكَ هي كلمتي الاخيرة
وفي هذا المسرح العامر بالأشكال المختلفة
مثّلتُ دوري
وهنا لمحتُ ما لا صورة له.
كلّ جسدي
وكلّ أعضائي
ارتجفت تحت لمسةِ ذلكَ لا يُلمسُ
وإذا طاب لنهايتي أن تكون هنا
فلتتركوها تأتي اليّ
وهذه هي كلمتي الأخيرة.


وهذه القصيدة تبيّن أن طاغور لم يكن محصورًا في عالمه الذاتي الخاص فاترًا في علاقاته البشرية، بل كان صاحب رسالة، عاش حياته منفتحًا على مختلف التجارب والاتجاهات، واتساع قلبه للكون، فكان صوته الشعري وحده كافيًا لتخليده كفنان في فن الحياة. لقد تعانق الشعر والغناء، لدى طاغور في انسجامٍ وتناغم رائعين، حتى لقد وضع اكثر من ثلاثة آلاف أغنية، كان لها أثر كبير في الموسيقى المعاصرة الهندية، وبذلك عرف طاغور الحب الذي لا يصدف عن الحياة ويهرب منها، زاهدًا بها مبتعدًا عنها، بل الحب الذي يغريه بالحياة الحرة الباسمة المزدهرة، فهو شاعر يُبشّر بالمحبة والسرور. وفكرة السرور والحب لديه لا تتحقق من اشباع الرغبات والشهوات وإنما تقوم أصلاً على الحب السامي الطاهر الذي يبعث الشعور في النفس بعيدًا عن التشاؤم والنظرة السوداء، ولنستمع الى هذا الغزل الناعم متذكرين أننا  في حضرة شاعر متصوف يقبل على الحياة بكل حواسهِ وبشغف روحي ظاهر:

أنتِ سحُب المساءِ
التي تجوبُ سماءَ أحلامي
اني أرسمكِ وأشكّلكِ
بأشواقِ حبي
أنتِ لي.. لي أنا فقط
أيتها الساكنة أحلامي اللانهائية
إنّ قدميكِ مورّدتان
بلهيبِ أشواقي
ايتها الجانية لأغنياتي عند الغروب.
من طعمِ نبيذ ألمي
كانَ لشفتيكِ ذلك المذاق الحلو المرُّ
انتِ لي، لي أنا فقط
أيتها الساكنة أحلامي المنفردة
بظلالِ غرامي
ظلّلتُ عينيكِ
أيتها الزائرة لأعماقِ نظراتي
لقد أمسكتُ بكِ وسأضمكِ
في شبكةِ موسيقاي
فأنتِ لي
أنا وحدي
أيتها الساكنة أحلامي الخالدة.

وهكذا نرى من هذه القصيدة أن الاعلاء من شان الحياة الروحية لدى طاغور لا يلغي دعوة الحياة وبهجتها ولا يعطّل الاستمتاع الحي بها، كما لا يعطّل في نفسه نوازع الطبيعة وشهوات الجسد. وله في الحب والغزل قصائد جميلة يغلب عليها الطابع الرومانطيقي لا سيما أن طاغور كان قد قرأ بعض أعلام الشعر الانجليزي من أتباع الحركة الرومانطيقية. وفي القصيدة التالية، نلمس هذا الأثر الرومانسي حيث يبصر الشاعر الجمال: في الطبيعة وفي الانسان وفي الفن الطبيعي، ويتشبث بأهداب الجمال حيثما وقعت عليه عيناه، ويقرن ذلك بمحاسن ومفاتن حبيبته:

تعاليْ يا حبيبتي
للتنزّه في الحديقة
وتخطّري قربَ الزهورِ العاشقةِ
التي تحتشدُ عندَ رؤياكِ.
مرّي قربها وتوقفي
امام بهجةٍ غير متوقعةٍ
مثل الغروبِ الرائعِ
ينيرُ، ولكنه سرعانَ ما يزولُ.
ولأنّ عطية الحبّ خجولٌ
فإنها لا تعلنُ عن اسمها
إنها تتخلّلُ الظلال بسرعةٍ
ناشرةً رجفةَ الفرحِ عبرَ الترابِ
فخُذيها خطفًا
أو افقديها الى الأبدِ
فالعطيّةُ التي يمكنُ الإمساكُ بها
ليست سوى زهرةٍ نحيلةٍ
أو ومضةٍ من اللهيبِ المرتجفِ.


وحين نتأمل تجربة الحب كما تبدو في شعر طاغور، نجد أنه تناول في بعض أشعاره الطابع الحسي المشتعل، حيث نرى النزعة المادية الجسدية في غزله واضحة، وهو ينظر الى هذه التجربة المادية، نظرة الى صلاة صوفية، ويعتبر عناق المرأة وقبلتها كعطر الأزهار،وهذا يتساوى مع غزله الصوفي الذي ليس هدفه الاثارة وذلك لأن الصوفية ليست تقديسًا للروح، وكفرانًا بالجسم، بل تقديسًا لهما، فعبادة الأجسام هي من عبادة الروح، وعبادة الروح من تلك، فطاغور عندما يرسم لنا مثل هذه الصور والمعاني في القصيدة التالية، إنما يريد أن يبلغ بنا عن طريق الفن، الى ما في الجمال بروحه وكيانه من قدسية علوية:

ضعي عودكِ يا حبيبتي
وأطلقي ذراعيكِ لمعانقتي
ودعي ملاطفتكِ
تحملُ قلبي المفعم الى الحافة العليا
من جسدي
لا تُشيحي برأسِكِ
ولا تنزعي مُحيّاكِ
ولكن قدِّمي اليّ قبلةً كانت مكتومةً
مثل العطرِ المُقيّد في البُرعُم
منذُ آمادٍ طويلةٍ
لا تخنقي هذه اللحظة في كلماتٍ عاتبةٍ
ولكن دعي قلبينا يرتجفان
في نهر من الصمت يكسحُ كلَّ الأفكارِ
في طريقهِ الى الفرحة التي لا
حدَّ لها.


إنّ الهدف الأخلاقي في عمل طاغور لا ينفصل عن العمل الفني الابداعي ورسالته الاخلاقية بادية في شعره، فشعره يدعو الى كمال الانسان وتحصينه من الشرور الاجتماعية، ففي القصيدة الرقيقة التالية تبرز المحبة الأبوية لدى طاغور، كمنارة ناصحة تبذل نور المحبة وتعيد الى الانسان اليافع المضيّع أحلامه وأمنه واستقراره، وتتغنى بأغنية الأمل والايمان والسلام والثقة بمستقبلٍ أفضل:

أغنيتي هذه
ستلُفّ موسيقاها حولك
وتطوّقكَ يا بنيّ كأذرع الحبّ.
أغنيتي هذهِ
ستلمسُ جبهتكَ
كقبلةِ البركة.
وحين تكونُ وحدكَ
ستجلسُ هي الى جوارِكَ
وتهمسُ في أذنكَ همساتها.
وحين َ تكونُ بين حشودِ الناس
فإنها ستُسوّركَ بعدمِ الاكتراث
وستكونُ أغنيتي
جناحينِ لأحلامكَ
وتحملُ قلبكَ الى حدودِ المجهول
ستكون لك كالنجمةِ المخلصة
في أعالي السماء.
تَهديكَ الطريقَ حينَ يشتدُ ظلامُ  الليل.
وأغنيتي هذهِ
ستجلسُ في بؤبؤي عينيكَ
وتحملُ بصرك على النظر في قلبِ الأشياء
وحينَ يُسكت الموتُ صوتي
فإنّ أغنيتي سوفَ تتحدثُ الى قلبكَ.



خاتمة:

وبهذا نكون قد رأينا أن شعر طاغور كان مجنّحًا بالحب والألم، والفكرة والنغم، حاملاً للمعاني الروحية كالشعاع النقي والجدول الصافي، فيغسل بكلماته الحلوة القلوب الحزينة المتشوّقة الى الطمأنينة والمحبة والسلام، فهو يحب أخاه الانسان، دون أيما فارق في المنزلة والدين والمذهب والانتماء، ولقد كان شعره وأدبه رسالة فكرية انسانية نبيلة، في صفائها يكمن الحب البعيد عن النزوة العارضة العابرة، ويتألق الحب الندي المستمر الصادر عن نفس صافية وروح قوية تمضي الى القلب بلطف ووداعة دون تكلّف أو إبهام. وقد تبلورت في نفس طاغور شفافية نادرة في التعبير عن محبة الخالق في إطار صوفي نستخرج منه المعاني الكبيرة التي يصورها تارةً في اسهابٍ وتفصيل، وتارةً اخرى في تركيز وتكثيف. وهكذا حين مات رابندرانات طاغور، افتقدت الهند، بغيابه الأبدي، أكبر شاعر عرفته عصورها كلها.

nora90
nora90
مشرفة
مشرفة

رقم العضوية : 6
الوطن : تونس
انثى
عدد المساهمات : 14
تاريخ التسجيل : 05/05/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى